بسم الله الرحمن الرحيم

هي خاطرة سريعة لم أخطط لها، خاصّةً أنني بصدد الإنتهاءِ من تدوينة إدارة الوقت وتنمية الذات. لكن ما حدث معي اليوم وأثناء عودتي من الكليّة، كعادتي قمتُ بتشغيل المذياع للإستماع إلى ما يدور هُناك. توٌقّف اصبعي عن التفتيش عن موجة، ليستقرّ على إذاعة "صوت إسرائيل" الناطقة بالعبريّة. كان يبثّ حينها أحد برامج المسابقات الثقافيّة، والذي فيه يسأل مقدّم البرنامج المستمعين سؤالاً ثقافيّاً وعليهم الإجابة عنه. إلى هُنا والأمور تسير على طبيعتها إلى أن قامت إحدى المستمعات اليهوديّات بالإتصال والإجابة عن السؤال، فبشّرها المقدّم بصحيحِ إجابتها وقبل أن يبدأ بسردِ قائمة الجوائز التي ستحصل عليها أخبرته أنّها تريدُ شيئاً للأطفال، فلم يتردد أبداً وقال: مجموعة من الكُتب الثقافيّة للأطفال .. هُنا أجبِرَ المذيعُ على التوقّف والإنصات للصوت الخارجِ من سمّاعةِ المتحدّثة، إنّهم أطفالها يرقصون ويهتفونَ بفوزِ أمّهم بالجائزة المقدّمةِ بالتالي لهم، ضحكَ المذيع وناداهم: أنصِتوا، لم أنته، أنظروا ماذا سأقدّم لكم أيضاً: "مشاهدة أحد العروض الكوميديّة المخصصة للأطفال" .. فقفز الأطفالُ مجدّداً يهتفون: "אמא .. אמא .. אמא!" (ماما!) ..!
كنتُ في تدوينةٍ سابقة (كيف تكون مبدعاً) قد تحدّثت عن دور الأهل والبيت في تنمية إبداع الطفل، وتسخير الجو المناسب له، عدم كبته وإخراج ما في بطنه من مواهب علّها تفيد الأمّة أكيداً فيما بعد.. لاحظوا اعتناءَ الأمّ بالبيئة الثقافيّة المحفّزة للأطفال، ولاحظوا اعتناء وسائل الإعلام بتخريجِ جيلٍ مثقّف مع مراعاة جيله والأمور المحببة له. شخصيّاً لا أذكر أنني رأيتُ أماً وأطفالها يتحلّقونَ حول الراديو بالذات، أو حتّى مشاركتهم بحلّ الأسئلة التي تعني الكبار بالدرجة الأولى. التحلّق جميعا حول الراديو للإستماع فقط له مفعوله الكبير بدايةً في أن تكونَ مستمعاً جيّداً. يقولون أن تكون مستمعاً أكبرُ تأثيراً من أن تكونَ متحدّثاً ذا لسانٍ طلق. وبراعة الاستماع تكون بـ: الأذن، وطَرْف العين، وحضور القلب، وإشراقة الوجه، وعدم الانشغال بتحضير الرد، متحفزاً متوثباً منتظراً تمام حديث صاحبك..!
يحدّث أحد الأشخاص: دعاني أحد أصدقائي إلى حفل توقيع أحد العقود المهمّة لشركته، لكنّ صوتي كانَ متعباً يومها ولا أستطيع الكلام تقريباً. وصلتُ لأرضِ الحفل، فبدأ أحد المدعوين بالتحدّث معي، ولشدّة الألم في حنجرتي لم أشارِك في الحديث تقريباً سوى بالإيماء موافقاً برأسي أحياناً، وبعض الكلمات، أستطيع أن أقول أنّني شاركتُ بـ30% من الحديث وأكملَ هو الباقي. بعد أن عدتُّ إلى بيتي خشيتُ من ردّة فعل الأشخاص الذين تواجدوا هناك بوصفهم لي بأنني شخصٌ ممل، لكن كانت المفاجأة عندما صرّح الأشخاص الذين حاوروني لصديقي بأنني محاورٌ بارع!
الإلتفاف حولَ الراديو مع الأطفال محفّزٌ للخيال والإبداع العقلي، فما على المقدّم أو الإذاعة سوى تقديم الأصوات، وحريّة رسم الصورة هي للمستمع فقط. وربّما تكون إحدى التمارين المجدية جدّاً لتحفيز الذاكرة الصوتيّة كذالك..
ولا بدّ لنا من ملاحظة دور الإعلام في تدعيم هذا الدور، حينما اختار الهديّة المناسبة لسنّ الأطفال عندما أخبرته الأمّ بذالك حرصاً منها على استفادتهم على المدى البعيد. فكان اختيار الكُتُب والثقافة هي في المرتبة الأولى، ولم ينسوا أنّ الترفيه مطلوب، فكان العرض الكوميدي هو الجائزة الثانية ..
كم هوَ ممتعٌ أن نتشارك جميعاً- جماهيرَ وإعلام في تربية جيلٍ سحملُ رايتنا فيما بعد. وكم هوَ ممتعٌ أن تشاهد البذرة التي زرعتها يوماً بأجودِ تربة، وسقيتها بأنقى ماء لتشاهدها تنمو يوماً بعد يوماً وتستلذّ بالإفتخار به.
للأسف إعلامنا يقدّم يومياً المئات من المواضيع الساقطة لأطفالنا، هذا عدا عن الرسوم المتحرّكة والتي لا أعلم من أين يقومون باختراع أشكالها، فذاك ذو عينٌ واحدة وآخر تتمركز أذنه في منتصفِ رأسه بينما عيناه في يديه، ناهيك عن لباس الفتيات والذي لا أجدُ له أيّ وصفٍ حتى الآن!
يقتلون كلّ إبداعٍ متبقٍ لديهم، ولا يستفزّون فيهم سوى العنف والكلمات البذيئة وفي أفضل الظروف يخرجُ الطفلُ وليس في رأسهِ سوى شكل الشخصية "الرائعة" هذه ويريد أن يشتري منها مقلمةً أو حقيبة!
وما يعزّ عليّ حقاً حينما يتّهمني كثيرون بمبالغتي بانتقاد وسائل الإعلام هُنا بالذات، ووصفهم لي بالعقليّة الصعبة. ما زال البعض يؤمنون أنّ الوضعَ ممتازٌ جداً وبأنّ النجاح والثقة التي نالتها كبرى وسائل الإعلام هي تعكس نجاحهم واقتناع الناسِ بهم بالرغم من أنّ الوضع مختلفٌ كلّ الإختلاف عن هذا .. ما زلنا نطمحُ لإيجادِ البديل الذي سيحرق جميع الأوراق الصفراء، ونساهمَ -ولو قليلاً- ببناءِ جيلٍ حرٌ مُحسن ..
أسعدُ بمشاركتكم لي تعليقاتكم هُنا وليس فقط على الفيس بووك :)